تسجيل صوتي لمسؤول أمني يكشف خلفيات عدم سداد لبنان ديونه السيادية

أعاد تسجيل صوتي منسوب إلى اللواء عباس إبراهيم المدير العام السابق للأمن العام النقاش إلى بداياته في موضوع “تخلف الدولة اللبنانية عن دفع سندات الدين الخاصة بها”، إثر القرار الذي صدر بالإجماع بتاريخ السابع من مارس (آذار) 2020، عن الحكومة اللبنانية التي رأسها في حينه حسان دياب.

تضمن التسجيل وصف عباس إبراهيم قرار التخلف بـ “الجريمة الكبرى”، مستذكراً حديثاً دار بينه وبين حاكم المركزي الذي رجاه دفع مبلغ الـ 600 مليون دولار أميركي وهي فوائد “اليوروبوندز” المستحقة على الحكومة اللبنانية، وشراء وقت يتراوح بين ستة أشهر وسنة، ريثما يفاوض الدائنين لإعادة برمجة الدين”. ويلفت إبراهيم “كان هناك قرار من الجميع بالتخلف”، متحدثاً عن “استفادة البعض من هذا التخلف”، و”فريق آخر اتخذه عن غباء”، وهناك “من ظن أن بإمكانه إعادة النظام الاشتراكي”. كما عبر عن أسفه بأن “التخلف سيقود إلى خراب البلد، وهذا ما حدث فعلياً” حسب مضمون التسجيل الصوتي، الذي وجه فيه اتهاماً لاستفادة البعض من التخلف عن سداد الدين.

متى تبدأ المفاوضات؟

في مارس 2020، اتخذت الحكومة اللبنانية قراراً بعدم تسديد سندات الدين “اليوروبوندز” البالغة 2.2 مليار دولار أميركي، بحجة استخدام المبالغ لتأمين الحاجات الأساسية للمواطنين اللبنانيين، وإثر الاجتماع الشهير في السابع من مارس، أعلن حسان دياب التخلف عن دفع استحقاقات مالية كبيرة، تقدر بـ 4.6 مليار دولار في عام 2020، متحدثاً عن وصول احتياطات البلاد بالعملة الصعبة إلى “مستوى حرج وخطير”.

روج دياب في حينه إلى أن “القرار هو السبيل الوحيد لوقف الاستنزاف وحماية المصلحة العامة، بالتزامن مع إطلاق برنامج شامل للإصلاحات اللازمة من أجل بناء اقتصاد متين ومستدام”.

مضت ثلاث سنوات، وانعكس التخلف سلباً على السمعة المالية للبنان، وتراجعت قيمة الودائع، ولم تقم الدولة بأي خطوة فعلية نحو الإصلاح الحقيقي، فيما ثار جدال قانوني حول “إعلان إفلاس الدولة” على غرار الإجراء الذي يتخذ بحق الأفراد الذين يتخلفون عن سداد ديونهم.

قرار مدروس

تعتقد شريحة من الخبراء الاقتصاديين أن قرار التخلف والتوقف عن الدفع كان مخططاً له. يقول الخبير الاقتصادي بلال علامة “هناك من دفع في هذا الاتجاه، وشهدنا تحريضاً عليه، حتى أن الرئيس حسان دياب كان مجبراً على إذاعة القرار، ولم يُعطَ من قبل المستفيدين مهلة لجلسة ثانية”، مشيراً إلى “جني أرباح كثيرة على حساب المصلحة الوطنية من هذا القرار بيعاً وشراء من قبل مصرفيين، ومستشارين ومحيطين بالقصر الرئاسي للمفاوضة عليها لاحقاً بأسعار أعلى”.

من جهة أخرى، يلفت علامة إلى أن “الاحتياطي الإلزامي تراوح في مارس 2020 بين 25-29 مليار دولار أميركي، كما كانت هناك استثمارات كثيرة في الخارج تمكن لبنان من دفع الـ 600 مليون دولار أميركي مقابل تأجيل السندات المتبقية، والحفاظ على قيمة “اليوروبوندز”، وموثوقية السندات السيادية اللبنانية”، منبهاً إلى “الأثر السلبي لهذا القرار المشؤوم”، الذي أدى إلى تخفيض تصنيف لبنان من قبل وكالات التصنيف العالمية، “ما أفقد البلاد مناعتها، وانعدمت ثقة العالم فيها”.

هل من سبيل لاستدراك التخلف؟

بعد أن أصبح التخلف عن سداد الديون السيادية أمراً واقعاً، انصبت الأنظار على الإجراءات التي قد تتخذها الحكومة، والمبادرة إلى مفاوضة الدائنين، وإعادة جدولة الديون. في المقابل، هناك من يتساءل إذا كان من الممكن تجنب تجرع هذه الكأس المرة في حينه. برأي سمير حمود الرئيس السابق لهيئة الرقابة على المصارف، أن كلمة “لو الافتراضية” لا تصلح لتشخيص أي قرار اقتصادي، مستدركاً أن المنطق يقول “لا يمكن لأي إنسان مدين، التخلف عن دفع ديونه بصورة غير منظمة وفردية من دون أي اعتبار للدائن ومصالحه”.

يلفت حمود إلى الآثار السلبية للعلاقة المتوترة بين الحكومة آنذاك، وحاكمية المصرف المركزي على قرار التخلف، مضيفاً “عوضاً عن نقاش الملف بهدوء بين السلطات المختلفة، ظهر التراشق بين مكوناتها”. ويؤكد “كان بالإمكان تدارك الأزمة، من خلال تفاوض السلطة النقدية مع الدائنين لإعادة هيكلة وجدولة الديون، كان من واجب البنك المركزي القيام بمهمة المفاوضة بصمت ومن دون ضجة، ولكن حدث العكس تماماً”، وانعكس التخلف على الثقة بالبلاد، وقدرتها الائتمانية.

معالجة سيئة

يعتقد حمود أن “معالجة الأزمة كانت أسوأ من الأزمة في حد ذاتها”، وعاد إلى عام 2011، موعد ظهور معالم الأزمة، التي حاول الحاكم رياض سلامة استدراك معالجتها في 2013 من خلال الهندسات المالية، ولكن بدأ العجز في الظهور عام 2018، وما بعدها إلى حين وقوع الانهيار الكبير، ويتساءل حمود “من يفاوض الدائنين اليوم؟ ومن يطمئن المودعين؟ وأين التشريعات لحل الأزمة”؟ مضيفاً “كيف تدفع المصارف الأجور، وتحقق الأرباح، وتؤمن النفقات التشغيلية، وينفق أصحابها على أسفارهم، ولا يعيدون في المقابل دولاراً واحداً للمودعين”؟

كما ينتقد حمود “حجة توفير الأموال لدعم السلع الأساسية”، مشدداً أن “هذه المهمة لا تقع على عاتق البنك المركزي، وإنما تأتي من خلال اعتمادات الموازنة العامة”.

الخروج من النفق

وعن إمكان الخروج من نفق الأزمة، وإعادة لبنان إلى مسار التصنيف الإيجابي، يلفت حمود “لكل شيء حل، ولكن لا بد من تحمل العبء والكلفة. وفي غياب إرادة الحل، ستستمر المشكلة بالتعاظم لأن هناك ثابتاً لدى المصرف المركزي وهو عدم تحمل أي كلفة إضافية”.

يقدر حمود الحجم الإجمالي لسندات الدين اللبنانية بـ32 مليار دولار، تتوزع بين 24 مليار دولار في الأسواق الدولية، إضافة إلى ثمانية مليارات دولار تتحملها المصارف التجارية اللبنانية. ومن ثم لا بد من إعادة جدولتها، تمهيداً لإعادة دفعها لاحقاً، لتعود البلاد إلى التصنيف الإيجابي، وإبراز الوضع الحقيقي للمالية اللبنانية في الأسواق الدولية، ذلك “أن التسويات على القاعدة الرضائية لم تعد تصلح، كأننا نتعامل بين أصحاب وأحباب وأشقاء”.

يحدد حمود أبرز الدائنين، وهي مؤسسات مالية دولية، مثل “غولدمان ساكس”، و”مورغان ستانلي”، ويجزم أن “أول منافع جدولة الديون هي إعادة البلاد إلى واجهة الأعمال الدولية من خلال تحسين تصنيف لبنان وعودته إلى الأسواق المالية الدولية، وعودة القطاع المصرفي إلى الحياة”، كما “لا يمكن إعادة هيكلة المصارف وإنشاء مؤسسات جديدة من دون معالجة ملف الدين وتحسين التصنيف الدولي”، مضيفاً “لا تأتي الاستثمارات الدولية في ظل تصنيف ائتماني من درجةD “.

يعتقد حمود أن المدخل لحل الأزمة هو تجديد السلطة، وإعادة الانتظام إلى المؤسسات الدستورية، من خلال انتخاب رئيس جديد للجمهورية وحكومة فاعلة، وعمل تشريعي منتظم غير معطل، مكرراً “لا أحد يفاوض دولة لا تمتلك أركاناً ثابتة، وقيادة أصيلة”، و”كل الإجراءات تتخذ في الوقت الضائع، لا تمتلك أي قوة تنفيذية وعلاجية”.

المصدر: اندبندنت عربية